فضاءٌ غزة..
بقلم غسان عبد الله
أمدُّ الفؤادَ على وجعِ الأرضِ، ينبضُ وئيداً، ينامُ على راحتيَّ، أسائلهُ: رقَّةَ الحالِ، كيف تعودُ؟!!! يقول وراءَ جبالِ الرَّمادِ أُعَرَّى، يقتطعونَ السَّنامَ، ولحمَ التَّرائبِ، والزَّوْرَ، والكتفينِ، وممَّا يليهِ من الظهرِ، لأَعبرَ من سُمِّ صَدْعٍ يضيقُ، ويكبر جرحُ البلادِ، ويكبرَ حجم السُّؤالْ.. وأَرفعُ غزة جَسراً لجنتي.. حتى ضفافِ الروحِ الألقية..
تَسألُ معبر رفح عن الأمرِ، عن رحمٍ يُستباحُ.. وعمَّن أقامَ بغزّةَ حتى يحين الوقتُ – عند ابتداء النزَّيفِ – يُصلِّي لماءٍ تَيَبَّسَ في مقلةِ الغيثِ، مرَّ سحاباً، كما برزخٍ من زجاجٍ تشظّى، يَهزُّ صَواعقَهُ في وجوهِ النَّخيلِ، فتطرحُ أحمالها.. غزة رفعتْ – في سماءٍ بلا حُجبٍ – رايةً للحدادِ، فَهَلاَّ سألتم غزة مالَهَا؟!!!.. والدخانُ فضاءٌ، وشطٌّ، وصحراء تعرى، وتخلعُ للرِّيحِ أسْمالَها.. فيا ريحُ كوني لها مئزراً، ودثاراً لعلَّ الذي نهنهَ الوجدَ – حتى الأَخير - يحدِّثُ عن فتيةٍ آمنوا بربهم.. عن أميرٍ على حِصَانِ الفجرِ يرفلُ بالدعاءِ من أوَّلِ البحرِ عند عكا حتى آخر نقطةٍ في تكوين القرى.. عن طفلٍ على طُهرهِ عاكفٌ للصلاةِ، يشحذُ إن أعجزتْهُ الأمورُ الصِّعابُ، وأبطأ جيشُ اليهودِ سكِّينَهُ.
وتوقدُ القلبَ غزة – من جميع الجهاتِ، تصيحُ: أدركوا قدسَكُمْ.. أولى القبلَتينِ وثاني الحرمين ودرَّةُ المشرِقَيْنِ”- وكلِّ الجهاتِ - تُدنَّسُ بالقهرِ الذي يستبيحُ طُهرها، قوموا أضاعَ النَّخيلُ غماماتهِ، والحُبارى تُبرِّدُ أعناقَها في أتونِ الهَجيرِ، تَمورُ الصُّقورُ كمآذنَ من نجيعْ، تُمزِّق صدرَ السَّما بصراخِ الصغارْ.. أبو ذرِّ قامَ يؤذِّنُ.. والناسُ بين الغطيطِ، ونومةِ أهل الرَّقيمِ، فأُدرجَ في كفنٍ من رصاصٍ، وأُلقيَ في اليَمِّ، مريمُ ألقتْ غدائرَها للرِّياحِ، ونادت بكلِّ الجهاتِ، جاءَها المخاضُ تحت جذعِ النَّخلةِ.. فتبكي الكنائسُ في بيت لحم.. تصومُ وتُطعمُ أطفالَها في الجليلِ.. تُطعِمُهم رَطْبَها في الغداةِ، وتنحرُ “للعيدِ” خرافَ بهجَتها.. كلوا عنبَ الخليلِ رطباً.
تَزحفُ مريمُ تباركُ معجزةً، والزَّمانُ على حافةِ القَرنِ يأكلُ لحم أخيهِ، ويرتاحُ تحت ظلال الأَراكِ، وأجنحةِ الخيانةِ.. وقالتْ: نَفُكُّ الحصارْ… نُعيدُ التُّرابَ كما كانَ إرثا مباركاً.. ومن غير إذنٍ نَزورُ دَسَاكرَ القدسِ العتيقةِ ونمضي على ميسلون، بلا رخصةِ أو رجاءْ.. وقالت: نصلِّي ببابِ الوريدِ، ونقرأُ من سورةِ الدَّمِّ عُشْراً، ونَسأَلُ عمَّنْ “يُحدِّثُ أَخبارها”…. ويمحو – من المقلتين، ومن دمنا – عارَها.. وقالت هي غزة تدفعُ جيشَ اليهودِ بدم أبنائي، وترفلُ علماً من بيارة الخليلِ، تصرُخُ بكلِّ خيامِ الصفيحِ: غداً سوف تقومُ العماراتُ بهذا النجيعْ.. تذكروا ما قامَ دينٌ من دونِ نجيعْ، فـأتحفوا الترابَ بما يجودُ الوريدُ.. لا تتركوا قدسَ أقداسِكم تضيعْ..
إذا لاحَ طيف غزة – في المنامِ – أفيقُ، وإن مرّ ذكرها لا أنامْ.. غزة عسكرَتْ في ضفافِ الوَريدِ وصارَ لها – في الفؤادِ -خيامْ.. ندهتُ غزة!! جاوبتني الأَيائلُ – من كلِّ فجٍّ - وقالتْ غزة أشعلت نارها في الأزقةِ وفوقَ رؤوسِ الجبالِ، ومرَّت – على مُدْنَفاتِ الصَّحارى -غمامْ.. غزة تبقى ويبقى الدمُ صاحياً على مفارقها حارساً لا ينامْ.